الوجبات السريعة
????- زائر
- مساهمة رقم 2
الوجبات السريعة
سين سؤال:
لماذا نحب الوجبات السريعة، على الرغم من أن كثيراً من المعاناة في حياتنا يعود أولاً وأخيراً إلى العلاقة بيننا وبين هذه الوجبات منذ طفولتنا؟
كلنا يعرف أن الوجبات السريعة تسبب السمنة، والسمنة تسبب المرض، والقبح والترهل، وكل المعلومات والتحذيرات التي نعرفها، مسبقاً، مخزنة في أرشيفات عقولنا. الفارق أنها معلومات غير قابلة للاستخدام، لا تظهر حين نتصرف، ولا نتذكر هذه الحقائق الغذائية وقت الاستهلاك؛ لأننا ببساطة نستخدم جزءاً آنياً وقتياً من إدراكنا لحظة الاستهلاك، هذا الجزء الآني الذي يتعرف على المادة الغذائية المطروحة للبيع عبر المعلومات اللحظية:
(لذيذ- فاتن الشكل- مغري الرائحة- لايقاوم- ذو نكهة ...الخ الخ الخ).
لا أحد يستفيد من هذا الجزء الآني البدائي في الإدراك مثل صنّاع الأغذية السريعة والرديئة وتجارها، أولئك الذين يجنون ثرواتهم عبر مخاطبة ومحاصرة وتركيز الإعلان والدعاية حول هذا الجزء الآني من الذاكرة.
بعبارة أخرى، من النادر جداً أن يتساءل أحد أو واحدة -وهما يراوحان قدميهما أمام طاولة إعداد الطعام في مطعم سريع انتظاراً لوجبتهما- عن تاريخ وعملية إنتاج ما سيدخل لبطنه بعد قليل.
أعني، أننا حين ندخل محل وجبات سريعة مدفوعين بشهية عالية أيقظتها روائح معدة بإتقان، وديكور فاتن وكمية هائلة من الصور المغوية المضمخة بألوان تستصرخ المعدة وبقية الأحشاء لمزيد من الجوع والتلوي، عندما نرى ذلك كله فإن آخر ما نفكر فيه هو أننا سوف نستهلك بعد قليل أردأ أنواع البروتين، وكميات عالية من الدهن الحيواني، وكمية عالية من النشويات كفيلة بتحويل هذه الوجبة إلى قنبلة بطيئة المفعول، نأكلها طوعاً وليس كرها، وندفع لأجلها أيضاً.
السر في هذا الخضوع العجيب هو الإدراك السطحي الآني، الذي يتعامل معه صاحب مطعم الوجبات السريعة بحرفية، فهو يقوم بعملية تلميع بسيطة للوجبة السريعة، تحتوي على مزيج من البهارات والتوابل، ولباس نظيف أحياناً، وسعر رخيص، وتفضّلْ خذْ وجبتك.
وتأكلها، تستهلكها، وبعد قليل تتصور أنها تخرج بنفس البساطة التي دخلت بها جسمك، والحقيقة أنها في طريقها قامت بعملية تسميم بعيدة المدى، تظهر فيما بعد سنوات من الاستهلاك المتواصل غير الواعي على شكل جسم مترهل، وبشرة منطفئة، وعظام هشة في سن مبكرة.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فقد ذكّرني هذا الواقع بحالة سمّاها أحد أساتذتي بحالة (استهلاك الخبر الصحفي)؛ حيث تظهر الحقيقة الصحفية المصنعة المهدرجة على شاشة التلفزيون أو على جريدة اليوم ليقرأها المتلقي.. يستهلكها ويبتلع ما فيها من حقائق معدّلة ومصنّعة، ويطوي الصفحة للصفحة التي بعدها.
وهي حالة قد يظهر فيها الخبر كمادة قابلة للاستهلاك، عمرها يوم أو يومان، ومن ثم تمضي كما تمضي الوجبة السريعة في بطن المستهلك.
هذه الحالة الصحفية هي تقريباً أبرز سمات ما يسميه باحثو علم الصحافة بالصحافة السائدة (mainstream media )، وهو ليس بالضرورة مرادف لما نسميه في عالمنا العربي بالإعلام الحكومي الذي تشرف عليه وزارات إعلام أو مؤسسات حكومية، بل يمكن أن يدخل فيه أي مؤسسة إعلام تستفيد من هدرجة الخبر وتصنيع الحقائق.
ما لا نأخذه في الحسبان هو أن تراكم الحقائق المصنعة المهدرجة في العقل المستهلك يسبب حالة من التناحة والترهل الفكري على المدى البعيد.
وهكذا في حالة الاستهلاك السيئ للخبر المهدرج تتحوّل معدّات تفكيرنا إلى حالة خمول مستعصية لا مفر منها، إلاّ إلى الغرائبيّة.
ولعل أبرز مثال على حالة تراكم الهدرجات الصحفية هو مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، حين يبدو المتلقي -وبفعل المينستريم ميديا- غير قادر على تخيّل صورة أخرى للعربي المسلم غير ما تمّ تخزينه وتحميله على قاعدة بيانات ذاكرته.
وبالتالي يتمكن المتلقي من إيجاد عذر أخلاقي لحرب العراق وأفغانستان؛ إذ قد سبق للصحافة السائدة أن كوّنت صورة مفتعلة لهذين البلدين تجعل منهما (معتدياً) مستحقاً للعقاب والاحتلال والتحرير والديموقراطية.
هذا مثال على حالة تراكم صورة مفتعلة ووعي زائف في "بلاد بره".
ولكن لاتفرحوا فعندنا وعندهم خير، وعندنا مثال على حالة الهدرجة الصحفية شهدناه بأعيننا قبل أشهر وفجع قلوبنا، وهو ما أوردته (واس) في تغطيتها لكارثة جدة؛ فقد أصبحت السيول القاتلة مجرّد غيث سعيد فرح به الناس، وذهبوا بسببه للتمشية وقضاء الوقت.
وحين حُمّ الأمر وطفحت الحقيقة المرة عن عشرات المفقودين والضحايا، ظهرت لنا الإعاقات الفكرية التي تسببت بها عقود من استهلاك الأخبار الصحفية المزوّرة لتحلّل الفاجعة بغرائبيات غير مقبولة، بدلاً من الإشارة بأصابع الاتهام للمتسبب الحقيقي.
ولأنه في عقلنا الاستهلاكي الجمعي، يصبح الشاي الأخضر قادراً على (حرق) الدهون التي يلتهمها أحدنا في وجبة مفطح، يصبح من الممكن جداً أن تُعاقب جدة مدينة الذنوب بإغراق أحياء الفقراء التي لم يصلها الصرف الصحي.
ما هو الشيء المسؤول في وعينا الجمعي عن تقبل وتمرير هذه الأفكار المغلوطة؟
أعود وأقول: إنه التلميع، وما سمّاه القرآن الكريم بالتزيين (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً)، بحيث تنقلب الحقائق فتصبح أكاذيب، وتصبح الوجبات السريعة القاتلة أكبر استثمار يمكن أن يجني منه المستثمر ذهباً، وتصبح الكوارث الناتجة عن قصور الذمّة وتلاعب الأمانة بأرواح السكان عقوبة إلهية حتمية لوجود الذنوب. والويل كل الويل لمن يتشكك في هذه التجديفات والتأليات على عالم الغيب؛ وفيما بينهما لا توجد لدينا مشاكل تحتاج لحلّ، فالحال عال العال، وأجسامنا المترهلة سينحتها الشاي الأخضر وينقّيها من السموم!!
لا توجد ثقافة تحترف التلميع والتنميق مثل ثقافتنا الجديدة ابنة القرن الحادي والعشرين، بدءاً من المطعم الذي يقدم أجمل وأشهى الوجبات، فيما تختبئ الجرذان في مطابخه بين أكياس الدقيق، وانتهاء بالإعلام الذي يقدم صورة مجتزأة بشعة حول ديانة وثقافة يعتنقها أكثر من ربع سكان العالم، ولا يهوّن الإعلام المهدرَج الذي يقدم صورة ناصعة ومغرية لمدينة يموت فيها الإنسان غرقاً بسبب انعدام الصرف الصحي.
ولكنها حين تنكشف الحقائق؛ فبصرك اليوم حديد، نقف مبهوتين مذهولين أمام وعي زائف أفنينا العمر كله في تغذيته وإعلافه، حتى إذا كبر واستفرس بدأ بنا يأكلنا، ابتداءً من أجسامنا المنخورة المترهلة، ومروراً بمجتمعاتنا وحضاراتنا المسيّرة بالبركة، وانتهاء بأبنيتنا التحتية وعلاقتنا ببعضنا البعض نحن بني البشر!!
هذه قصة عالم اليوم ابن السوق الحرة وابن القرن الحادي والعشرين، بكل آلامه وأوهامه المبكرة، من طقْ طقْ، للسلام عليكم.